أدب وروايات - في المخزون
بعض الكتب لا يُكتب بحبر القلم فحسب، ولا بنقرة لوحة المفاتيح، وإنما بدم القلب مباشرة وأزعم أنَّ «كلنا مريم» واحد من هٰذه الكتب التي لا يمكن لقارئها أن يظل هو نفسه بعد الانتهاء من الصفحة الأخيرة. وللوقوف على أهمية هٰذا الكتاب سأستعيد ما كتبه غسان كنفاني قبل أكثر من ستيِّن عاما وهو يكابد آلام المرض، حين توصَّل إلى أنَّ عصر المشاركة يكاد يكون معدوما بين الناس «إنَّهم يحسُّون أنك تتألم، ولٰكنهم لا يعرفون كم تتألم، وليسوا على استعداد أبدًا لأن ينسوا سعادتهم الخاصة من أجل أن يشاركوا الألم، وعلى هٰذا فعلينا أن نتألم بيننا وبين أنفسنا، وأن نواجه الموت كما يواجه واحد من الناس الآخرين نكتة يومية».
حين كان محمد المرجبي يعيش يوميات مرض ابنته وذبولها على مدار سنوات، كنا -نحن أصدقاءه وزملاءه- نحس أنه يتألم، ولكن لا نعرف مدى هٰذا الألم، وهنا تكمن فرادة هٰذا الكتاب الذي يلتهمك بالتدريج؛ إذ يخيل إليك في صفحاته الأولى أنك ستقرأ فقط حكاية معاناة فتاة وأهلها مع مرض عُضال، والمحاولات المحمومة لمقارعة هٰذا المرض ومهادنة الحياة، وهٰذا ما يحدث بالفعل، لٰكنَّك ما تلبث حين تتوغل في القراءة أن تكتشف أنك لم تعد مجرد قارئ عن الألم والمعاناة وإنما تعيشها بكامل وجدانك وأحاسيسك، وأنَّك بت فردا من هٰذه العائلة المتكاتفة التي قررت التخلي عن كل مشاغل الحياة والتفرغ لمحاربة هٰذا المرض، وتهيئة كل الظروف المواتية لمريم لتشعر وهي في رحلة العلاج المضنية التي امتدت شهورًا أنها لم تغادر وطنها الأم، وما زالت بين أهلها وناسها الذين يتنقلون معها من عُمان إلى الهند ثم تايلند، والبحرين، دون كلل أو ملل، يحتفلون معها بالعيد، ويعدون لها الوجبات التي تحبُّ، بل ويفاجئونها أحيانًا بزيارات صديقاتها الحميمات.
استغرقت «يوميات المرض والذبول» هٰذه سنوات عديدة، وحضرت عُمان فيها في خلفية المشهد، من رحيل السلطان قابوس -رحمه الله- في العاشر من يناير 2020م، إلى جائحة كورونا التي اجتاحت العالم في العام نفسه، إلى الاحتفال بالعيد الوطني الثامن والأربعين، إلى بداية العام الدراسي، وغيرها من تفاصيل البلاد الكبيرة والصغيرة التي وضعت القارئ في الإطار الزمكاني للأحداث.
ليس هٰذا الكتاب الأول لمحمد المرجبي، وأغلب الظن أنه لن يكون الأخير، لٰكن يحلو لي دائما أن أسمِّيه «كتاب العمر» ليس فقط لموضوعه الإنساني المؤثر، ولا لأنه يحوِّل قارئه من مجرد متفرج على الألم إلى مشارك منغمس فيه، ولٰكن أيضًا لأنه كتب بحرارة وصدق.
سليمان المعمري